شمسُ الأصيل تبثّ أطيافاً أرجوانيةً ناعسة، والهواءُ مثقلٌ بأناتِ الغمائم الراجفة، والشوارعُ جداول راعشة تروى بصدق حكايةَ الغُثاء الذي جلل أديم الأرض منذ أيام.. حوّمت عيناي على كلّ شواهد القبور المتداعية في حقل من حقول الموت فارتجفت أوصالي، وأخذ لساني يتمتم بأَدعية وصلوات، وتهالك جسدي الواهن على رابية تحتضن الحبَ والصدقَ والوفاء.
- صادق!. صادق!.
- أهلاً عماه..
- أهلاً بك يا ولدي.. رأيتك عن بعد وحيداً كأنَّ الهمَّ يتملكُك، فأسرعت لأطمئنَ عليك..
- شكراً يا عماه..
الوحدةُ سفينة بلا شراع تتقاذفها الأمواج أينما شاءت..
الوحدة أطلالٌ وخرائب تنوح منذ قرون يردد البومُ صدى نُواحِها، وتعبث الجرذانُ بفيئها كلَّ مساء..
الوحدةُ كوابيسُ مرعبة في زمن تُقهر فيه جذور الضوء وأمشاج الأرض وأمواج الهواء..
هأنذا نبذت كلَّ مساكن الأحياء، وانتبذت ركناً قصياً من مساكن الأموات خِلت أن لا أحدَ يلوذ بصمتي ليستأنسَ بتأملي، فيمرغَ مناجاتي لروح أبِ تركني وحيداً بين مطارقِ الأخوة وسِندانِ الحاجة..
- صادق!. ما بك يا ولدي؟! "إنك ميت وإنهم ميتون" صدق الله العظيم؟
- نعم يا عماه.. لهم الرحمة ولنا الصبر..
داعب العم صالح برفق لحيتَه المدبَبَة التي تغطي أسفلَ ذقنه، ورنا بعينين ذاويتين إلى وجهٍ شاحب يختزل كلَّ الهموم والمتاعب، وتمتم بهدوء:
- لا شيء في الدنيا يا ولدي أصعبُ من كبت الهموم ووأدِ المشاعر..
كان العمُ صالح صادقاً في حَدسه وتخمينه، فالتجاعيد التي تكسو وجهَه الصغيرَ، والخطوطُ المستديرة المرسومة على صدغيه تشي بخبرة صاحبها في أمور الحياة..
لم يكن من السهل خداعُ هذا الرجلِ الذي منحه اللهُ موهبةَ الكشفِ عما في أعماق النفوس، ففي وجههِ المغضنٍ وعينيه الناعستين فيضُ لواعجَ مزمنة ودفقُ مشاعرَ صادقة..
- يا صادق.. كانَ رحمَه الله لا يخفي عني شيئاً. أخبرني ما بك بصراحة..
الصمتُ ظلامٌ دامسٌ يحجب نورَ الكلمات وزهور الأمل.. يعربد الشتاء في فيافيه، ويورق الوعيد على تخومه.. أنسامُه آهاتٌ وحسرات، ومساكنُه أطلالُ مدينة دمرها الزلزالُ منذ قرون..
ماذا أقول له؟! إنه يعرف أخوتي، ويعرف أيضاً أن كلَّ الطرقاتِ إلى عقولهم غيرُ سالكة..
- يا صادق.. إن أباك رحل عن الدنيا وترك أولادَه الأربعةَ في يُسر..
- يا عماه أنت تعرف حقَ المعرفة ما يدور في خلدهم..
- أعرف يا ولدي، ولكنك قادرٌ على رأب الصدع.
- إنهم يحفرون قبري بأياديهم..
- لا تحفر قبورهم بيديك؟
- والجدار المشترك بيننا؟! ألم تره؟! إن كلَّ من رآه رأى الموتَ ينمو في جذوره والعويلَ في عروقه..
- بالصبر يا ولدي سيزول كلُّ جدار..
***
الأحزان في داخلي تمورُ بالردى.. تضجّ بالصدى.. تائهٌ لا شيءَ غيرُ الآه في دروبي.. متهالك كصفصافة غزا جذورها الوباء، ولا أحدَ يغرس فأسه في خصوبة أحلامها كي يبتر الجذور.. وحيد أدق خطاي على أديم الصمت أزرعُ الأمل الواهن بذور أمان.. شبحٌ واهٍ يستجدي الحسرةَ من الذاكرة فلا يجد سوى الظلالِ المنسكبة في المدى كالمشاعر..
الباب يصرّ صريراً مزعجاً يكشف نوراً خافتاً يتسلق بلهاثه الجدران.. لا أذكر أن لساني أطلق تحيةَ المساء لكن شريكةَ الهموم والمتاعب تردّ السلام مشفوعاً برحمة الله وبركاته.. تأملتها فلقد كان القنديلُ ينثر لهاثَ ضوئِه فوق وجهها فيجعلُ لأهدابها ظلالاً تزيد إشعاعَ عينيها ألقاً..
هذا الألق القادم من عينيها المتوهجتين بألوانِ الفجرِ وأسراره الغامضة، وهذه الابتسامة التي تضم بحنان كلّ رحيق الأمل بذلتها بسخاء لتبدد الكآبة من نفسي تجعلني بحق أنسى الحزن والألم.. إنها تعاني أكثرَ مما أعاني، ولا تطلبُ من الله شيئاً سوى أن يحفظ لها زوجها وولدَها الراقدَ بجانبها..
- لا تحزن أيها الحبيب، فلكلّ مشكلة حل..
- لكن الحلَ لا يكون في بعض الأحايين سهلاً..
- إني أراه غايةً في السهولة.
- ماذا تعنين؟.
- قبل قليل جاء والدي ورأى بأم عينيه ما حلّ بنا من عفونة، فألحّ عليّ بالانتقال إلى بيته الكبير..
- وبيتُنا ؟!
- إنه ليس بيتَنا.. إنه بيتُ أخيك حسان، ولم نجن منه سوى الدوارِ والعفونةِ وعويلِ الخطرِ.
- ماذا تقولين؟!
- أقول الحقيقةَ كما سمعتُها، وإن أخاك الكبير يمتلك الوثائق التي أصبحت بموجبها كلُّ أملاكِ أبيك له.
- مجنونةٌ أنت؟!
- إنها الحقيقة.
***
الجدار ينزُ قيحاً وعفونة، وأنّات الغمائم الدكناء تتسارع فيعلو دويُّها، والريح صرصرٌ تصفع الوجوه بقوة، والعيونُ تحتبس مسيل الدموع فتذوى في محاجرها هلعاً ورعباً من الفجيعة الكآبة تعصر صدري فتدفعني إلى النحيب .. لم أعد أرى سوى الأطياف الخادعة، ولاأحس بشيء سوى هذا الدوار الذي تصيبني به رائحة العفونة المدينة تخلو وشكل الفجيعة يحلو.. جوف الليل يقاوم شهيق الرياح ، وأنا مازلت أعيش في زمن مستباح ..
اليدُ الراجفة تقرع بعصبية باباً يَممتُ شَطره.. يتثاءب الباب كسلاً ما يلبث أن يغلق بهمجية فيصفع أنفي بقوة..
اليد الراعشة تقرع الباب المجاور، فيتمخض بعد عناء عن طفل صغير ما أن يرى صادقاً حتى يتشبث به ويشبعه تقبيلاً..
- وائل.. حبيبي..
- حبيبي أنت يا عماه..
- لم لا تأتي إلينا وتلعب مع ابن عمك؟!
تلفت وائل يمنة ويسرة ما لبث أن همس في أذن عمه:
- إن أمي تمنعني من المجيء إليكم، ولكني سآتي يا عماه.
- أين والدك؟
- إنه عند عمي حسان أرسل في طلبه منذ زمن طويل، فذهب إليه مع عمي محسن.
اتكأ صادق على باب بيت أخيه الكبير قبل أن يقرعه..
الدوار يلفه متهالكاً مثل ظل سراب، والحسرة آهاتٌ حرّى في جيئة وذهاب، وبصيص أمل يشده ألف سؤال وجواب.. أيسحق لبان الأم كل أعشاش العوز والحرمان؟!
أيقذف الدم المغلف بأوردة الفرح شهقَة الحب وزفرة الأمان؟! من يدري؟!
سأمتطي صهوة الحلم إلى عالم الرؤى والعذاب، فلن أقنعَ من الغنيمة بالإياب..
الطرقات مطارق تنهال على كل مساحات الصمت الرهيب.. تدك جدر الوهم، وتقتلع جذور الغل، وتفضح عشق السراب..
- أهلاً صادق.. تفضل..
أزاحت يدي بعصبية غريباً لا أعرفه، وتقدمت بخطاً ثقيلةٍ بطيئة، فرائحة الخمرة تغمر البيت ومن فيه.. الدوار يعصف بالرؤوس الثملة، والأنوف قد اكتست بلون أرجواني، والعيون أخذت تلمع فجأة..
القهقهات يعلو دويها، والنميمة رفعت رأسها بوداعة وأخذت تسمع صوتها، وبعض المرائين يستمعون بانتباه ليثبتوا بذلك وجودهم، وحسان ومحسن وحسين قد اكتست وجوههم العريضة بالحمرة والزرقة فأصبح منظرهم مخيفاً..
رباه!! ماذا يجري في بيت أبي؟! وهو البيت الذي ما شهد إلا الطهارة والعفة والعبادة.. بصوت.تعتعه السكر قال حسانُ لأخيه:
- من أرسل في طلبك يا حاج صادق؟
القهقهات تتسارع، والرؤوس تتمايل تارةً وتصغي تارةً أخرى..
- جئت من أجل الجدار أليس كذلك؟! لنشرب نخب الجدار يا جماعة..
قرع الكؤوسِ سكاكين تمزق بوحشية شغاف القلب الكسير، ومعاول تهدم بهمجية كل الأحلام..
- خذ هذا الكأس يا صادق واشرب معنا نخب الجدار..
- اشرب قليلاً تر الجدار كبيرا..
- اشرب يا صادق فنحن مَنْ بنى الجدار.. إنه اختصاص درسناه في الخارج..
- أرجوكم يا جماعة.. ابتعدوا عن صادق واسمعوني جيداً:
جداري جداري جداري
أنت خمري ومتاعي
- كفى أيها الأوغاد..
هوت الكفُ الراعشة على وجه الفضولي الذي جاء حاملاً كأسه المترع فهوى، وامتدت بعصبية على آخر وآخر قد اقتربوا، فتعالت القهقهات صاخبة ما لبثت الأفواه أن أُغلقت عندما تقدم حسان متمايلاً، فسدد لكمة سكرى إلى وجه أخيه جاءت على وجه أحد الفضوليين، وسقط حسان أرضاً بأحضان ذلك الفضولي، وبعد استراحة قصيرة في مرقده نهض مزمجراً فسدد لكمةً أخرى إلى وجه أخيه الذي وقف أمامه جامداً كالصنم، فسال الدم غزيراً من أنفه..
تعالت الأصوات مشجعةً ومستنكرةً بآن واحد:
- لكمةً أخرى يا حسان..
- خذ ثأرك من أخيك يا صادق..
- هيّا يا حسان..
- لا ترحمه يا صادق..
لمن أردّ هذه الإهانة.. وإلى من أمدّ في عينه إصبع الإدانة..
أمسك صادق عصاً عجراءَ كانت مسندةً على نافذة قريبة منه، وانهال بها على رؤوس الحاضرين عدا إخوته، فترنحوا جميعاً يسبحون في بركة من الدماء..
وقف حسان وانتزع العصا من يد أخيه، فانهال عليه ضرباً وركلاً حتى أدماه ثانية، وصاح به غاضباً:
- لن تنام الليلة في البيت أيها الوغد.. هيّا ارحل من هنا.. ليس لك ولا لأخوتك حجيرةٌ واحدةٌ من كلِّ أملاكِ أبيك.. ألم تقل لك زوجتك؟. هيّا أخرج، ولا ترني وجهك بعد اليوم.
***
شراعي المنهوك يلوح للشطآن البعيدة.. يزفر آهات العودة.. مطفأةٌ تلويحتي.. مضحك بكائي.. تائه في لجة الكلام والعواطف البلهاء.. لا أملك سوى جسدٍ أدمته العصا العجراء وأصابع صفراء.. وصلعةٍ يقال أَنها علامةُ الذكاء..
وحيداً أدق خطاي على أديم القهر والضياع، وظلي يسابق خيول المطر التي أخذت سنابكها تعزف بصخب ألحان الغد المجهول..
خيول المطر تتوقف فيتوقف ظلي بلا دماء، ويبدأ الصمت الكئيب الذي لا يجرحه سوى أنين الأشجار التي يضاجعها الريح..
- افتحي الباب يا فرح..
- ما بك يا صادق ؟!
- هيّا استعدي للرحيل.. لن ننام الليلة في ظل هذا الجدار الملعون..
- أمهلنا حتى الصباح..
- لا.. هيّا خذي ابنك إلى بيت جده، وسألحق بكما بعد قليل..
لا وجود للحب تحت المقاصل، ولا مكان للصفح أمامَ غدرِ الخناجر..
الجدار يتهاوى تحت وقع ضرباتِ مطرقةٍ صماء انهالت بقوة وعصبيةٍ على كل ركن فيه.. الصراخ يعلو من كل صوب، والضربات تتلاحق بهمجية، فتهبط قطع الجدار الرخو هنا وهناك كقطع السحاب المتناثرة لتكشف بجلاء ووضوح عن قمر ينثر بسخاء أطيافاً سحرية تبعث في النفس الارتياح..
الصمت يخيم هنيهة ما يلبث أن يتململَ حين يشق حجبه صوت حبيب إلى قلبي:
- قم يا صادق كفاك نوماً..
- والدي!! والدي!!
- ما بك يا بني؟! لِمَ ترتجف؟!
- لا شيء.. لا شيء..
- هيّا يا بني، فأخوتك بانتظارك.
أخرج الوالد من جيبه المنتفخ رزمةً من الأوراق المالية وزعها علينا بسخاء..
عيناي تحدقان ببلاهة في عيونِ أخوتي المغلفةِ بالدموع، فاعترتني رجفةٌ ما تعودتها، فتشبثت بأذيال والدي، وبكيت طويلاً عند قدميه.. جفّف دموعي بمنديله القطني وقبلني متسائلاً:
- ما بكم يا أبنائي؟! أهذه أولُ مرة أغادركم فيها إلى بيت الله الحرام؟!
لن أتأخر عليكم إن شاء الله.. أما إذا قدر الله ولم أعُد فوصيتي مودعةٌ عند عمكم صالح.. مطلبي الوحيد وغاية ما أتمناه أن لا تقيموا أي جدار يفصل بينكم مهما قست الظروف وتعددت الأسباب.