حاول زملاؤه إقناعه بعدم السفر في هذا الطقس الحار بسيارته الجديدة ولكنه كان عنيداً، كان يرغب أن يشاهده أبناء حيّه وهو في سيارته الجميلة يروح ويجيء، مع أفراد أهله المدقعين فقراً.. كما كان قلقاً على أمه وليس من حجز مؤمن بسرعة على الطائرة.
اجتاز عامر مسافة الطريق البحري قبل أن يبدأ الطريق الصحراوي، وتبدأ معه الهواجس التي اجتاحته بشدّة، وهو يرى أن عدد السيارات العابرة قد قلّ كثيراً، حتى أنه انعدم في بعض المناطق..
وقبيل المغرب بقليل وصل إلى استراحة صغيرة.. لم ير أيّاً من السيارات أمامها.. أوقف سيارته وهو يشعر بالندم.. اقترب منها يبحث عن أحد فيها بدت له كأنها مغلقة وفجأة سمع صوتاً خلفه:
- نعم.. ماذا تريد؟
رأى رجلاً كهلاً يرتدي لباساً خفيفاً:
- أريد أن أجلس قليلاً وأتناول شيئاً من الطعام.. يا عم..
- لا أحد لديّ هنا.. وأنا رجل لا أرى جيداً.. لا أستطيع أن أخدمك
- زجاجة مياه غازية، وبعض(البسكويت)
- تفضل خذ ما تشاء.. الأسعار تجدها أمامك.
- حسناً.. ألا أحد يعمل لديك هنا؟
- في الصيف تخفُّ الحركة كثيراً.. فأستغني عن أحد الخدم نهائياً.. والخادم الآخر ذهب لإحضار بعض اللوازم.. وسيعود بعد المغرب بقليل..
- غريب.. كأن السيارات لا تمر من هنا..
- إنه وقت سيء للسفر يا بني.. درجة الحرارة تقارب الـ(60ْ) في الظلّ..
- يجب أن أذهب إلى أهلي.. منحوني الإجازة السنوية في هذا الوقت.. تفضل الحساب أمامك يا عم..
-أتريد متابعة طريقك الآن؟ انتبه جيداً، لا تسرع كثيراً، هناك بعض المناطق غير مضاءة من الطريق.
- شكراً لك يا عم..
كان عامر شاباً لم يتجاوز الثامنة والعشرين أنهى دراسته الجامعيّة في كلية الهندسة الكهربائية والميكانيكية، وأنهى خدمة العلم، وأخذ إجازة بلا راتب من عمله ليلتحق بإحدى الشركات العاملة في الخليج.. براتب شهري حسده عليه الكثيرون..
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعود فيها إلى بلده بعد غياب قارب السنتين، وقد ألحّت عليه والدته أن يأتي ليراها فهي تعاني المرض والشيخوخة، وقد تنتهي حياتها فجأة..
ورغم أن أخوته طمأنوه على والدته، ولكنَّ إحساساً خفيّاً جعله يقدّم طلب إجازته السنوية إلى مديره المباشر، الذي وافق عليها بسرعة كبيرة وهو يرى لهفة عامر وقلقه على أمه..
بدأ الظلام يلتف وأضواء السيارة تشق الظلمة في منطقة معدومة الإنارة.. شعر عامر بالقلق والخوف، مازال أمامه ساعات حتى يصل الحدود، ربما استغرق الليل بطوله..
بعد نحو ساعة والظلام يشتد شعر بهواء يعصف في الخارج، كانت الرمال تُشكل سحباً بعيدةً.. كأنها زوابع بدت على أضواء
السيارة أشبه بأشباح عملاقة..
عاوده شعور بالخوف الشديد، وتمنى لو لم يقم بهذه الرحلة وحده.. ازدادت الزوابع والسيارة تنطلق على الطريق، وبعد فترة قصيرة بدا وكأن بعض الزوابع الرملية تقترب من الطريق، وربما ستلفُّ السيارة بالرمال لم يدرِ ما يفعل، ولكن رجله استمرت تضغط على(دواسة) البنزين.. والسيارة في سرعتها الكبيرة.. لم يشعر كيف تحركت تلك الزوبعة صوبه وكيف لفّت السيارة وابتلعتها
شعر أنه يدور ويدور والسيارة ترتفع به.. ثم أحس بصدمة كبيرة وغاب عن الوعي.. وشعر كأن أشباحاً حوله.. تدور وتهمس بلغة غريبة، وأن الأيدي تنتشله وتشده.. وصحا بعد فترة لم يدر أكانت طويلة أم قصيرة..
نظر حوله يتأمل المكان كان مكاناً مغلقاً بلا نوافذ وليس سوى ضوء مصباح ضعيف..
أزّ البابَ وسمع صوتاً ناعماً أيقظه من شروده:
- استيقظت من غيبوبتك؟ حمداً لله على السلامة
كانت فتاة جميلة في مقتبل العمر:
- شكراً لكِ، أين أنا؟ وما الذي حدث لي؟
-.. عثر عليك بعض الرجال خارج المدينة.. ملقى على كثبان الرمل..
- في أية مدينة أنا؟
- إنها(مودس) مدينة صغيرة.. كانت فيما مضى كبيرة متقدمة.. اسمي سميّة، أنا ابنة الشيخ حمدان.
-وأنا عامر.. كنت في طريقي إلى أهلي في الشمال..
- وكيف حدث وألقت بك الظروف في طريق أولئك الرجال.. الذين عثروا عليك؟
- إنها إحدى الزوابع الرملية.. ابتلعت سيارتي وألقتني بعيداً..
- زوبعة رملية؟ على كل حال ولو كنتُ لم أفهم ما تقول.. ولكن لا بأس أهلاً بك ضيفاً علينا
سمع صوت سعال ودخل كهل بلحية بيضاء:
- كيف حالك يا بني.؟. الحمد لله تبدو بصحة جيدة.. هل أحضرتِ له الطعامَ يا سمية؟
- لم أسأله بعد.. استيقظ قبلَ لحظات..
- شكراً لك يا عماه.. لا أستطيعُ أن أتناول شيئاً.
- منذ أيام وأنت لم تذق شيئاً من طعام أو شراب، سيضعف جسمك.. لا بأس أحضري له بعض الحليب الطازج.
- حسناً يا أبي..
خرجت سمية من الباب الوحيد سأله الكهل:
- تبدو شاباً طيباً، كيف حصل وجئت إلى نواحينا؟
- لا أدري ما أقول لك، كان حادثاً مريعاً.
- لابأس عليك.. أنت غريب عن هذه البلاد؟
- نعم يا عماه.. أعمل منذ سنتين في شركة تعمل على ساحل الخليج.
- شركة على الساحل؟ لم أفهم شيئاً.. ولكن لماذا ترتدي هذا اللباس الغريب؟ تبدو أشبه برجل لا ينتمي إلى هذا العالم.
- إنه لباسي، أنا لا أعرف كيف أرتدي مثل لباسكم.. تعودت على هذا اللباس..
أتت سمية تحمل جرة من الفخار:
- الحليب يا عامر.. تفضل.
- شكراً لكِ.. إنه ساخن في هذه الجرّة الفخارية.
قال الشيخ حمدان:
- أتريد شيئاً الآن؟ الأفضل أن نتركك ترتاح.. هيا يا سمية.
- شكراً لكم.
شعر عامر بالاستغراب فالمكان الذي يوجد فيه بدا له كأنه تحت الأرض فلا أثر لنوافذ.. كما أن كل الأشياء الموجودة في الغرفة بدت له قديمة بعضها مهترئ..
شيء واحد أحسَّ أنه محببّ لديه، هو وجه سمية الصبية الجميلة بلباسها البدوي القديم. غرق في التفكير حائراً.. ترى أين هو الآن؟ وماذا عن مدينة(مودس) التي لم يسمع باسمها من قبل؟
ربما كانت قرية صغيرة غير معروفة.. لذلك لم يسمع باسمها.. ولكن أين سيارته؟ هل ابتلعتها الرمال وماذا حدث للأشياء التي فيها؟ لقد اشترى الكثير من الهدايا، وسحب مبلغاً كبيراً من المال من المصرف وضعه في حقيبته الصغيرة..
كل شيء الآن في السيارة والسيارة لا يعلم عنها شيئاً فقد أكدت له سمية أن الرجال عثروا عليه ملقى فوق أحد الكثبان الرملية.. يجب أن يعرف كل شيء ولابد من العثور على السيارة..
تقلّب في فراشه يحاول أن ينام، ولم يكن يشعر بالحرّ، رغم أن الغرفة غير مكيّفة، بالعكس أحسّ ببعض البرودة التي اضطرته أن يضع جلد الخروف فوق جسمه.. ولم يدر كيف غفا سريعاً..
صحا على الباب يطرق ثم فتح ودخلت سمية:
- صباح الخير يا عامر..
- صباح الخير.. يبدو أنني نمت طويلاً
- نعم، وحان الوقت الآن، يجب أن تحرك جسمك حتى لا تصبح مخبولاً كسولاً.. هكذا يقول أبي.. هاهو الحليب، تفضل..
ناولته جرّة الحليب فعبَّ يشرب منها:
- شكراً لك.
- جهز نفسك سيأتي والدي ليصطحبك إلى المدينة لتزورها.
- حسناً.. لن أتأخر كثيراً.
أغلقت الباب نظر إلى ساعته: -إنها السابعة صباحاً..
ولكن لا يدري من أي يوم، فليس في ساعته تاريخ اليوم..
مشى والشيخ حمدان في دروب المدينة الضيقة شبه المضاءة.
- مدينتنا صغيرة كما قلت لك، ولكنها كانت مدينة كبيرة جداً كانت من أشهر المدن من قبل
- وما الذي حدث حتى صغرت هكذا؟ هل هجرها أهلها؟
- لذلك قصة كبيرة، قد أحكيها لك يوماً.. قلت لي تريد معرفة المكان الذي عثروا فيه عليكِ وأنت بين الموت والحياة؟
- نعم يا عمّاه.. أرجوك.
أشار إلى أحد العابرين وهو يقول:
- حسناً.. ها هو أحد الرجال الذين عثروا عليك.. تعال يا سالم.. تعال.. إنه ضيفنا الغريب .
اقترب الرجل باحترام يحيّ عامر متفحصاً:
- آه الحمد لله تبدو بصحة جيدة.
- أرجوك يا أخ سالم، دلني على المكان الذي عثرتم فيه علي.
- لا بأس، إنّهُ بعيد قليلاً، ولكن سأدلَكَ عليه.. تفضل.. يمكنك العودة يا شيخُ حمدان.. إنه برعايتي الآن.
- لا.. سأرافِقكما.. عامر ضيفي وسأبقى معه.. وأعلم أنك أمين عليه يا سالم، ولكن لا بأس .
- كما تشاء يا شيخُ حمدان.
-3-
اجتاز عامر بصحبة الشيخ وسالم طريقاً متعرجة بين الرمال بعدما خرج من المدينة التي بدت وكأنها في وادٍ عميق تغطيها صخور كبيرة متداخلة.. جعلت الضوء لا ينفذ إليها كثيراً..
كانت مدينة عجيبة كأنها محفورة في الصخر، ضمن الصحراء مترامية الأطراف.. مشى عامر مع صاحبيه حتى وصلوا إلى كثبان رملية أشبه بالأهرامات تنتشر على مساحات واسعة.. أشار سالم لأحد تلك الكثبان.
- إنه المكان الذي عثرتُ فيه عليك يا أخ عامر..
- أيمكن أن أراه جيداً؟
- بالطبع.. كُنتَ مدفوناً بالرمال هنا، عَدا رأسِكَ وجُزءٌ من صَدركَ.
- أيمكن أن تساعدني في إزالة الرمال من هذه البقعة؟
- لماذا؟ هل تبحث عن شيء هنا؟
- عن سيارتي لابدَّ وأنها مدفونة هنا.. فيها كل ما املك تقريباً..
- سيارتُك؟ وما هي هذه السيارة؟ كيف هو شكلها؟
- ألا تعرف السيارة.. ألم تر واحدة من قبل؟
- للأسف لا.. ولا أعرف حتى شكلها.. لماذا تستخدِمُها.. ما فائدةُ استخدامِها؟
- إنها وسيلة نقل نستخدمها في الذهاب والإياب بين المدن والمناطق..
- آه فهي لابدّ وأنها ماتت وشبعت موتاً، فهذه الرمال تميت أي حيوانٍ يُطمرُ فيها..
- ليست حيواناً.. إنها كتلة من المعدن.
- تتحرّك؟ تتحرك وحدها؟ كيف؟ هل تعمل بالسحر؟ أم أنك تسخر منا بهذا المزاح الذي يبدو غير منطقي.. كأنه سخرية فعلاً.
- معاذ الله أن أسخر منكم.. ساعدني في رفع الرمال من هنا، وسترى أنني محق، وأن السيارة ليسَت حيواناً.
- لا بأس، ولكن إزاحة الرمال يلزمها صبرٌ ودأب.. وربما احتجنا لبعض الرجال.
- أرجو مساعدتك يا سالم بأي شكل.. كما قلت لك، كل ما أملك هو في تلك السيارة.
- لو ذكرتَ لي شيئاً عن تلك السيارة كُنتُ أحضرتُ بَعض الشبان لمساعدتنا.
- لم أفهم أنَ المكان يمكن أن يكون مَدفناً لسيارتي.
قال الشيخ حمدان:
- على كل حال يمكنكما البدء بالعمل، يا سالم.. وسأذهب لإحضار بعض الشبان الآخرين لمساعدتكما.
- لا بأس يا عماه.
كان عامر يبدو قلقاً شارداً سأله سالم:
- تبدو متعباً يا عامر؟
- رغم تعبي.. يجب أن أعثر على سيارتي.. إنها هامة جداً بالنسبة لي..
- إن شاء الله تعثر عليها.. يجب أن نُزيل كل هذه الرمال هيا..
بدأ يعملان ويزيلان الرمال بأصابعهما تمنى عامر لو كانت لديهما الأدوات المناسبة لارتاحا من استخدام أيديهما ولكن لا بأس، ليس لديهما سوى هذه الأصابع في الوقت الحاضر..
واستمر الشابان في محاولتهما إزالة الرمال من الكثيب وأتى الشيخ حمدان مع بعض الرجال لمساعدتهما..
واستغرق العمل طويلاً، ولكن لم يُعثْر على السيارة في نهاية المطاف..
شعر عامر باليأس ونظر حوله إلى الكثبان الأخرى، يفكّر فيها.. ترى أي من هذه الكثبان يبتلع سيارته.. وكأنما شعر الشيخ حمدان بأسى عامر، وهو يحدّق في الكثبان.. فهَمس إليه ملاطفاً:
- لا تقلق يا بني.. قد نعثر على ذلك الشيء المختفي في كثيب آخر.. وبالتأكيد أحد تلك الكثبان الثلاثة القريبة.. فلا يمكن أن تقذف بعيداً عنها كل هذه المسافة.. إذا كانت مدفونة في أحد الكثبان البعيدة .
- معك حق.
- ماذا سنفعل الآن يا شيخ حمدان؟
- هل تستطيعون البدء بإزالة الرمال من ذلك الكثيب الصغير؟
- لماذا؟ أتعتقد أن الشيء المختفي هو في أحد هذه الكثبان؟
- نعم.. وأرجو منكم مساعدتي..
- لا بأس، سنساعدك يا كبيرنا.. هيا يا رجال لنبدأ إبعاد الرمال عن ذلك الكثيب.
قال عامر: - سأساعدكم أيضاً.. هيا اقتربوا منه ولنُزِل عنه الرمال بسرعة.
- هل يمكن أن تساعدكم هذه المجرفة؟
- بالطبع.. أعطِها لهم.
كان عامر منفعلاً وهو يبعد الرمال بيديه.
- أرجو أن أعثر على تلك السيارة يا عماه.
- إن شاء الله يا بني..
سمعت أصوات وقع معدن على معدن كانت المجرفة تصطدم بشيء.. إنه معدن بالتأكيد..
((يا إلهي قد تكون سيارتي انتبهوا جيداً وأنتم تحفرون، لا تستخدموا المجرفة بقوة قد ينكسر زجاج السيارة.. أو تتحطم بعض أجزائها))
قال حمدان: - بلطف يا رجال بلطف..
- حسناً يا شيخُ حمدان..
عثر الرجال على قطعة معدنية ضخمة، عرف فيها عامر جزءاً من سكة حديدية محطمة.. وشعر بخيبة الأمل.. ولكنه تساءل عن سبب وجود تلك القطعة المعدنية الكبيرة في ذلك الكثيب..
واستمر الرجال يزيلون رمال الكثيب دون جدوى.. فلم يكن هناك شيء وعرف عامر أن تعب الرجال قد وصل إلى مرحلة تلزمه بإيقافهم عن متابعة العمل.
- شكراً لكم يا رجال.. سنستريح اليوم ونعاود العمل فيما بعد..
ثم همس عامر في أذن الشيخ حمدان:
((الأفضل أن نتمم العمل غداً.. قلت لي أن الاحتمال الأكبر أن يكون ذلك الشيء المفقود بين هذه الكثبان.. وقد أزلنا اثنين منها ويبقى اثنان آخران فقط..))
قال سالم:
- يمكننا متابعة العمل يا شيخ حمدان، لمَ نتعب كثيراً بعد.
- لا يا بني، يكفينا اليوم.. يمكننا العودة إلى المدينة.
- خذ المجرفة واحتفظ بها يا سالم.
- لا بأس.. سنستخدمها في الجولة التالية.
قال عامر هازّاً رأسه: - شكراً لكم.. أتعبتكم كثيراً.
أجاب حمدان: - لا بأس يا بني أنت ضيفنا..
E
-4-
تمشى الشيخ حمدان وعامر عائدين بعد أن ودعا الرجال:
- لم أر في حياتي مثل مدينتكم هذه يا عماه، كأنها مدفونة في الصخر.
- لها قصة طويلة كما قلت لك.. كم كان ذلك الزلزال مدّمراً؟ لقد دمّر تسعة أعشار المدينة.
- زلزال؟ وكيف حدث؟ ومتى؟
- منذ سنين بعيدة، ترك لي أحد أجدادي وصفاً دقيقاً عن الكارثة.. إنه مخطوط قديم احتفظ به بحرص في صندوق متين مُقفل.. لا يعرف سرّه سوى ابنتي سمية..
- أيمكن أن أطلع عليه يا عماه؟
- ليس بعد يا بني.. لم يحن وقت كشف ذلك السر..
وصلا بيت الشيخ حمدان قابلتهما سمية على الباب:
- ألا تشعران بالجوع؟ جهزتُ حَساءاً ساخناً بلحم الضأن.
- أحضري الطعام يا ابنتي.. بالطبع نحن جائعان.
- حسناً لحظات وأعود.
تمتم حمدان وهو يتابع سمية:
- سمية فتاة رائعة وأنا أحبها كثيراً.. إنها شديدة الأمانة والصدق.
- وحيدة؟
- لا.. لدي ثلاثة أولاد.. تزوجوا وعاشوا في مناطق أخرى، ولم أسمع عنهم شيئاً بعد رحيلهم.. سمية هي الباقية من أولادي الذين رحلوا عنا.
- زوجتك موجودة؟ أقصد أما تزال حية؟
- إنها مريضة، أثرَ بها إهمال الأولاد لنا.. وقد أمرضها ذلك رغم محاولاتنا التخفيف عنها.
- لم أرها بعد..
- ستراها سريعاً، إنها في إحدى الغرف الخلفية للمنزل.. هناك خادمة خاصة، تساعدها في تدبير شؤونها.
دخلت سمية تحمل طبق الطعام.
- الطعام.. تفضلا.
- سلمت يداك.. يبدو شهياً.
- بالهناء يا عامر.. أنت ضيف وتحتاج لتغذية جيدة.. أبي يأكل القليل.. إنه غير مسرفٍ في تناول الطعام.
- ولكن جسمه مربوع قوي.
قال حمدان:
- الأكل الكثير، ليس مصدراً للقوّة والعضلات المفتولة.. القليل قد يكفي الإنسان في حياته.. وقوته .
- معك حق يا عماه.
- ابدأا، كاد الحَساء أن يَبرد.
- بسم الله الرحمن الرحيم..
شعر عامر بأن سميّة سلبت لبّه.. وحين خلا لنفسه، شعر أنه يغرق شيئاً فشيئاً في حب الصبيّة..
وبعد استراحة الغداء بقليل، أتته سمية بالشاي، وطلبت منه الاستعداد لزيارة والدتها.. وبعد مدة قصيرة وجد نفسه يسير بصحبتها للقاء العجوز..
- أمي إنسانة خارقة الذكاء، رغم مرضها، انتبه إلى ذلك، وأنت تحادثها، هي التي طلبت رؤيتك.. ولم نتحدث نحن عنك أمامها أبداً..
- لابد أن خبر وصولي إليكم قد وصلها عن طريق إنسان مقرب إليها..
- ربما.. وإن كنتُ أشك في ذلك.. فهي ترى في أحلامها كل ما يحدث حولها وتتنبأ بوقوع الأحداث دائماً .
قابلتهما الخادمة: - سيدتي نائمة.. غفت منذ قليل.
قالت سمية: - ألن نُدخِلَ الضيف إذن؟
- بل تفضلا بالدخول.. اجلسا إلى جانبها.. هكذا رغبت.
- أن نراقبها وهي نائمة؟
- رغبتها أن تدخلا فور وصولكما، مهما كان وضعها هكذا أكدت لي.
- لا بأس.. تفضل يا عامر..
كانت تغفو على فراش رقيق، وهي تسند رأسها على وسائد عديدة.. شعر عامر كأنه رأى وجهها من قبل بدا له مألوفاً..
- أمي الآن في أحد عوالمها.. كأنها منفصلة عن عالمنا.
همست الخادمة: - أرجو أن لا تتكلما، حتى ولو بالوشوشة، إنها تنزعج، وقد تستيقظ غاضبة.
- لا بأس.. لن نتحدث أبداً حتى تستيقظ..
تحركت العجوز بعد قليل:
- الماضي مخيف.. والمستقبل.. آه من المستقبل.. أحضري تلك المرأة التي فقدت زوجها، والمرأة الأخرى التي أصابها الجنون.
- حالاً يا سيدتي.
تأملت عامر: - أنت عامر الذي دخل في لعبة الزمن؟
- أنا عامر يا خالة؟ نعم.. ولكن ما الذي تقولينه عن لعبة الزمن.. لا أفهم شيئاً".
- أنا أتحدث بالألغاز أحياناً.. كيف حالك يا ابنتي؟
- بخير يا أماه.. ما زال أبي يريد رؤيتك.
- ليس بعد يا ابنتي.. ليس بعد.. لا أستطيع رؤيته الآن.. اسمع أيها الشاب، لم يحدثك حمدان بعد عن سبب تحول(مودس) إلى مدينة صغيرة مدفونة تحت الصخر. قل له أن يحكي لك حكاية هذه المدينة، إنه طلب مني.. أفهمت؟
- سأقول له أنك تطلبين منه ذلك يا خالة.
- حسناً.. وأنت يا سمية، قلبي عليك يا ابنتي، ستتعذبين لبعض الوقت، ولكن هذا قدرك، لا بأس،
لا أستطيع أن أفسر لك ذلك الآن.. و.. اجلسا صامتين أنت وعامر.. ولا تتحدثا حتى ولو همساً سأرى هاتين المرأتين.
دخلت الخادمة:
- أحضرتهما لك يا سيدتي.. حتى المرأة المصابة بعقلها رافقتني بهدوء، دون مقاومة.
أشارت لها أن تدخلهما، فدخلتا باحترام كبير:
- اجلسا هنا.. استمعي إلي جيداً أنت، فقدت زوجك منذ أشهر، أليس كذلك؟
كانت المرأة التي تكلمت إليها شابة صغيرة حزينة:
- نعم يا سيدتي.
- إنه في مكان يبعد عدة فراسخ إلى الجنوب، ينتظر أن يلتئم جرحه ليعود إليك.. أصابه سهم صياد كان يصطاد حمر الوحش.
- هل أستطيع الذهاب إليه وإحضاره.؟
- يمكنك الطلب إلى الشيخ حمدان أن يزودك بالرجال لإحضاره.. إنه في خيمة صغيرة تعتني به امرأة متقدمة في السن، عثر عليه زوجها وهو ملقىً بين الرمال والدماء تنزف منه.
- شكراً لك يا سيدتي، هل أذهب الآن؟
- لا بأس، رافقيها يا سمية إلى الخارج، واحذري أيتها المرأة من أن تفقديه ثانية.. أنت من سبب له هذه المصيبة، بإلحاحك عليه للذهاب للصيد وحيداً، دن رفيق، لتستأثري بالصيد وحدك هيا اذهبي..
- نعم يا سيدتي.
همهمت وهي تخرج:
- إنها تقرأ الأفكار أيضاً.
قالت لها سمية: - هيا، سأرافقك إلى الخارج.
تابعت العجوز: - وأنت أيتها المرأة؟
- ماذا تريدين أن تقولي لي يا سيدتي الحكيمة؟ أنا بلهاء.. يسخر مني الجميع، حتى أولادي هربوا مني.
- أنت تمرين بمرحلة صعبة وقد اكتشفت جريمة بالصدفة، جريمة فعلها أقرب الناس إليك، وهو ابنك الأكبر.. قتل ضيفكم ليسطو على ماله.. ودفنه بمعونة ابنك التالي خارج الخيمة التي تسكنونها..
- آه يا سيدتي.. كيف عرفت؟ ما الذي أستطيع فعله.. وامرأة ذلك الرجل تبكي وتنوح وتفتش عنه وجثته مدفونة قريباً من مسكني..
- سيأتي بعد أيام تائباً " نادماً"، ويعترف بجريمته، ليأخذ العقاب الذي يستحقه، لن يرحمه الشيخ حمدان.
- أنا أموت يا سيدتي، كنت خائفة على ابني من هذه الجريمة، والآن أتمنى أن ينال عقابه، لم يكن سوى وحش طامع قتل بريئاً يحمل أمانة ليست له كما قال لنا أكثر من مرة..
- اذهبي الآن.. ستتعذبين لبعض الوقت ولكنك ستجدين الراحة بعدها.. رافقها إلى الخارج يا عامر.
- سأفعل يا خالة..
هزت رأسها وهي تبكي بهدوء.
- آه ما أكثر سواد الأيام المقبلة..
قالت الخادمة: - أرجوك يا سيدتي لا تقسي على نفسك كثيراً.
- أرى الدمار يحدث بيننا من جديد.. إنه منظر مرعب يتخايل أمامي دائماً.
E
-5-
عاد عامر وسمية.. إلى العجوز.. كانت قد نامت من جديد، وطلبت منهما الخادمة أن يصمتا ويراقبا العجوز التي غفت قليلاً ثم استيقظت وهي تنظر نحو عامر بحزن..
حكت بعضاً من أحلامها وخيالاتها.. ثم حكت لعامر عن زمنه الصعب وأنبأته أن أياماً حالكة شديدة السواد ستبدأ في زمنه.. سيموت الكثيرون، من الجوع، والقهر والاختناق.. والمرض الصعب المنتشر كالوباء..
((آه يا بني تبدو مستغرباً نظرتي هذه.. ولكن لا بأس ستجتاز كل الشدائد التي ستمر بها.. ليال حالكة السواد ليس فيها سوى الكوابيس ستحيطك من كل جانب.. زمنك سيكون فيه الموت وسيموت الكثيرون من الجوع والقهر والاختناق والمرض الصعب المنتشر كالوباء.. لا.. لا ..))
- ما بك يا أمي؟
(( ارحل يا بني من هنا أنت وسمية، سأراكما فيما بعد.))
همست الخادمة:
- بسرعة.. ستأتيها الحالة بسرعة ولا تريد أن يراها أحد وهي تدخل فيها.
- أية حالة؟ لم أفهم؟
رجتهما الخادمة أن يخرجا.. سألها وهما يخرجان:
- ألا تزورين أمك كثيراً يا سمية؟
- إنها تعتكف باستمرار، وأحياناً تخرج من عزلتها فتستدعيني أو تستدعي والدي، أو أي شخص آخر من المدينة..
- إنها إنسانة عظيمة يا سمية.. لم أر في حياتي مثل نظراتها التي تفيض بالطيبة والحنان.. إضافة للذكاء والشجاعة..
- منذ سنوات وهي في عزلتها الغريبة تلك.. ليتني أقيم معها، هي لا تسمح لي بذلك.. وهي صارمة في قرارها.
اتجهت نحو الطريق المؤدي إلى خارج المدينة:
- إلى أين تذهبين الآن، إنه الليل بظلامه ووحشته.
- بل إنه الليل بسمائه الصافية ونجومه اللامعة وقمره الفضي البديع.
- معك حق..
همهم: ((يا لقلبي المعذب كيف لم أنتبه لكلماتها؟))
- إنها ليلة ندية، يا عامر، وهذا الهواء الخفيف مع بداية إيغال الظلام قد يعني أن العواصف الرملية قد تبدأ قبيل منتصف الليل وربما استمرت حتى الفجر..
- ألا تخيفك العواصف الرملية يا سمية؟
- أشعر بها قبل أن تبدأ أو ألجأ إلى الكهوف والمغاور الموزعة حول الجبل طوال مدة عصفها.. أو أعود إلى المدينة وهي محمية من العواصف والزوابع مهما كانت قوتها..
- تخرجين لوحدك كثيراً؟
- أحب الشرود والعزلة أحياناً.. جو الصحراء يسحرني بجماله وهدوئه..
- أتعرفين، أنت أول فتاة أقابلها في حياتي تتمتع بهذه الشفافية، بسيطة.. واثقة من نفسها.. ذكية أكبر من عمرك الحقيقي بكثير.
- آه يا عامر أشعر بالخوف دائماً من المستقبل، اللقاءات القليلة التي التقيت بها مع والدتي.. غرست فيَّ هذا الخوف من الآتي..
- حياتكم ليست سهلة يا سمية.. لم تدخل التقنية إليكم بعد.. أنتم بعيدون عن الحضارة.. وربما كان هذا أحد أسباب بقائكم وأنتم تتمتعون بهذه الميزات الفريدة من النقاء..
تردد صوت عواد ذئب ليس بعيداً عن مكانهما:
- أنت تحسن الظن بمجتمع مدينتنا أكثر مما يجب.
شعر بالخوف وعواء الذئب يقترب:
- كأن ذلك الذئب أصبح قريباً" منا.
- الذئب الوحيد لا يخيف.. إنه يبحث عن صيد سهل لا يتعبه.. أنت خائف؟ هي أول مرة تعيش فيها مثل هذه الأيام في صحراء تمتد بلا نهاية.. لم تر ما في الصحراء من أسرار.. حتى حيواناتها الغريبة لها أسرارها..
زمجر الذئب قريباً منهما كأنه يصارع حيواناً قال عامر:
- كأنه عثر على طريدته.. وهي تحاول الهرب منه..
- هذا ما يحصل فعلاً.. يبدو أنك تتعلم بسرعة يا عامر..
- بدأ القمر يختفي خلف التلال البعيدة.. الرياح تتحرك من جديد.
- لم يحن أوان الزوابع الرملية بعد. أتريد العودة إلى المدينة؟
- لا يا سمية، أتمنى أن نبقى معاً لوقت طويل.. أنت.. أنت..
- قل.. ولا تخجل.. ماذا عني؟
كانت الرياح قد بدأت تصفر:
- لا أدري ما أقول لك.. أنت.
- قل يا عامر.. الرجل عندنا لا يخجل من البوح عما في قلبه.
- إنه شعور لم أعرفه من قبل، لا يمكنني وصفه.. لا يمكنني التعبير عنه.. شعور من عثر علي شيء فيه كل حياته وسعادته"كنبتة عطشى للماء، هطل عليها المطر".
- يبدو أن الصحراء علمتك نطق الشعر يا عامر.
- بل أنت من علمني الشعر يا سمية.. أنا أحبك..
همست وهي تتنهد:
- أعلم ذلك.. هيا يا عامر بدأت حركة الزوابع.. يجب أن لا نقع في دواماتها القوية..
كانت الرياح قد بدأت تحرك الرمال في زوابع دوّارة وكان عامر يفكر:
- (آه يا إلهي كم أشعر بالسعادة لقد ارتجفت حين وضعت يدي على كتفها، هي تحبني إذن)
E
-6-
كان شعوراً جميلاً انتاب عامر وهو يدلف مع سمية بين الفتحات الصخرية في الطريق الهابطة إلى المدينة ظلت سمية صامتة وهي تشده بأصابعها، حتى وصلا إلى البيت، كانت إحدى الخادمات بانتظارهما..
قالت لهما بلهفة:
- إنها بانتظاركما الآن...
- أمي تنتظرنا؟ هيا يا عامر.. هل هي وحدها؟
- سيدي حمدان هناك أيضاً.
- والدي هناك؟ لابد وأن الأمر شديد الأهمية..
فتحت لهما الباب فدلفا إلى الداخل، كان الشيخ حمدان يجلس قرب رأس العجوز الممددة في فراشها:
- كيف حالك يا أمي؟
- اجلسي إلى جانبي يا ابنتي.. وأنت يا عامر اجلس هنا.
- خير يا أماه أراك ترغبين بالحديث إلينا، هل هو مهم إلى هذا الحد أن تشغلي نفسك بنا؟
- ماذا تقولين يا سمية.. أنتم همّيَ الوحيدُ في هذه اللحظات.. اسمعي يا ابنتي.. واسمعني يا عامر.
- نعم يا خالة.. أنا أصغي إليك ومتشوق لمعرفة ما تريدين.
- قدرُك أن تَفِدَ إلينا من زمن غريب عنّا.. وقدرك أن تعشق ابنتي، وهي بالتأكيد تبادلك الوُدَّ، رغم خوفها من المستقبل.. ولكن استمع إلي جيداً.. طلبت من حمدان أن يحكي لك قصة مدينتنا.. إنها قصة هامة جداً لمستقبلكما معاً أنت وسمية..
- لم أفهم يا خالة ما تقصدين؟
- ستفهمُ كل شيء حين يحكي لك حمدان القصة كما كتبها أجدادنا.. كنت نائمة في نوبات أحلامي العجيبة.. رأيتكُما معاً، كنتما تتحادثان بهدوء.. والقمرُ يختفي خلفَ التلال.. كان قلبُك يضربُ بعنف، وأنت تشعر بأنفاسِ سميّة قربك.. ومنذ أن رأيتُك للمرّةِ الأولى وأنا أعلم أن شيئاً هاماً ينتظرك هنا.. لم أعرف عنه أيةَ تفاصيلَ بعد..
قال حمدان: - هل نتابع البحث في تلك الكثبان الرملية عن ذلك الشيء الحديدي الذي يريده عامر؟
- ليس بعدُ يا حمدان.. احكِ له القصة أولاً.
- كما تشائين..
- وأنت يا سمية، يجب أن تظلي هنا إلى جانبي، بعضُ الناس سيأتون إليّ يرغبون أن أحِل لهم مشاكلهم، أرجو أن تساعديني في ذلك، أحتاجُك لبعض الوقت.
- كما ترغبين يا أماه.. سأبقى إلى جانبك.
سأل حمدان: - أتريدين شيئاً آخر يا أم سمية؟
- آه يا حمدان، أبنائي الشبانُ رحلوا واختفوا ولا نعلمُ عنهم شيئاً كم تذكرني بهم عندما تنادينني بـ(أم سمية).
بكت سمية: - أنا إلى جانبك يا أمي أنت كُل شيء في حياتي.
- بارك الله فيك يا ابنتي.. يمكنُكَ الانصرافُ الآن يا عامر مع الشيخِ حمدان.. أتمنى لك التوفيق.
همهم عامر.
- في حفظ الله يا خالة..