"ما هذه الحياة سوى بيدر أحزان تدرس عليه أغمار النفوس قبل أن تعطي غلَّتها، ولكن ويل للسنابل المتروكة خارج البيدر لأن نمل الأرض يحملها وطيور السماء تلتقطها.." جبران خليل جبران
كانت الأوتاد التي غرست بإتقان في أعماق أرضه حراباً مسمومة تمزق قلبه وجسده، وكان السياج الشائك الذي حال دون تسلله إلى الأرض سوط عذاب يؤرقه فيحرمه من النوم. بصره مشدود إلى البيوت الراقدة في أحضان الجبل المعمم بجهاز رادار كبير.. إنه يعرف كل الطرق المؤدية إليها، ويعرف شجرة التوت الهرمة المنتصبة منذ عدة عقود زمنية عند رأس الساقية الكبيرة، فلطالما تفيأ في ظلها كلما أمضّه التعب وأرمضه الأسى..
أطلق تنهدة عميقة ارتعش من هولها جسده الواهن، وأزاح بشموخ دمعتين حارقتين همتا على صحن خده الذي حفرته السنون أخاديد عميقة..
تنحنحت أكثر من مرة.. اقتربت منه كثيراً.. لقد مللت تأوهاته وصمته وأحلامه.. أردت أن أحدثه لكنه كان يرتجف وعيناه مشدودتان إلى تلك البيوت البعيدة التي تراءت لي كبيادق مهزومة من حصان جامح.. وقفت أمامه لأحجب عنه الرؤية فالتقت عيوننا.. كانت عيناه مغلفتين بالدموع.. أمسكته برفق، وهمست في أذنه: ألا نرجع إلى البيت يا أبي؟
فتمتم بوهن: لا .. ليس الآن.
- أرجوك يا أبي إنك تقتل نفسك حسرة وكمداً كلما جئت إلى هنا.
أخذ يهزُ رأسه الصغير يمنة ويسرة وهو يرنو بعينين كامدتين إلى ما آلت إليه أرض أبيه وجده.. الشوك يزهر فيها والوعيد يعرّش في فيافيها.. الأوتاد المتمايلة وذلك السياج الشائك الصدئ وحوش أسطورية فاغرة أفواهها تودُ الانقضاض على كلّ من يحاول الاقتراب منها..
- أبي!! أبي!! أتسمعني؟
- أسمعك يا بني جيداً.. لكن أريدك أن تسمع ما أقوله..
- تكلم يا أبي..
- يا بني منذ أن زرعت في مفازة الأسى خطواتي الأولى.. منذ أن رجّت صرختي بحيرة السماء ورددت الراسيات صداها كانت الأرض هاجسي.. الأرض أمانة يا بني.. ستنطق يوماً وتشير بإصبع الاتهام إلى كل من خانها.
- لا تخف يا والدي.. إن الضياء سيغمرها بعد حين أنا على ثقة من ذلك.
- هذا كلام مجتر مللت سماعه. قل غير ذلك.
صمت كريم وتطلع بأسى إلى عصفور يتنقل بحرية من الشجرة التي يرقد في ظلّها إلى شجرة أخرى خلف السياج، فتاهت عيناه في سراب الأمل ووهج الحقيقة..
- ما بك يا ولدي؟! هيا بنا.
اعتصر كريم عينيه خفية، وأمسك بيد والده، وقفلا راجعين وتمتمات والده الراجفة تدوّي في أذنيه:
- تباً لهم.. تباً لأخوتي.. تباً لكم جميعاً.
***
كان والد كريم منذ سنين طويلة يمشي متكئاً على عكازة يقوده كريم إلى حيث يشاء، وكان يفخر بعكازته وبساقه المبتورة التي فقدها وهو يدافع عن أرضه، وكان يقول"لو طلبت الأرض مني ساقي الأخرى لما بخلت عليها بها"...
لم يتعود الجلوس في البيت أو على قارعة الطريق كما يحلو للآخرين.. كانت الأرض هي كلُ حياته يردد دائماً على لائميه"الأرض والعرض صنوان"
استهجن كل أفراح الناس المجاورين، وكان يطلق في سره بعض أنواع الشتائم.. لم يعرف الفرح منذ أن رأى الأوتاد في أرضه، فكان بعضهم يسخر منه وبعضهم الآخر يشفق عليه.. اتكأ على كتف ولده عندما تعثر في مشيته، فأسنده كريم بكلتا يديه، وعندما رأى الشحوب يغزو وجهه أجلسه على صخرة كبيرة واحتضنه بهلع..
- ما بك يا أبي؟
- لست أدري والله.. لكن جدّك رحمة الله عليه يتراءى لي.. يمدّ لي ذراعيه.. هاهو يقترب مني.. انظر.. انظر..
- أبي.. أبي..
- أرى يا ولدي غروب شمس حياتي يقترب كثيراً..
- روحي فداؤك يا أبي.. هيا إلى البيت لترتاح، وارحم نفسك وجسدك.
***
العلل تنهش الجسد الواهن بهمجية، والعينان الكامدتان ناعستان الظلال تحيط بهما من كلّ جانب، والغضون التي غرسها الزمن الرديء في الوجه المخدد قد انكمشت لتنزّ قطرات عرق رائقة، والزغب الدبق العالق على جانبي الرأس المكوّر نافر يستغيث، والشفتان الغليظتان تتمتمان تمتمات غير مفهومة..
حدّق كريم في عيني والده فرآهما تتحركان بتثاقل..
اليد الناحلة المعروقة تمسك كريماً وتجرّه برفق..
- هل تريد شيئاً يا أبي؟!
- اجمع لي أخوتك.
تحلّق الأولاد حول أبيهم والدموع تغلّف عيونهم.. تأملهم جيداً وابتسم.. قال بصوت متقطع:
- أطيعوا كريماً إن حافظ على الأرض، وإن تخلى عنها فلا طاعة له عليكم.
- أبي..
- اصمت يا كريم ودعني أكمل حديثي.. تحت وسادتي ستجدون وصيتي.. أحاسبكم أمام الله إن لم تنفّذ قبل دفني.
قال كريم ناشجاً:
- سننفّذ وصيتك يا أبي وأقسم لك بالله على ذلك.
- الحمد لله.. سألقى وجه ربي راضياً عنكم.. اعملوا يا أبنائي ما عجز أبوكم عن فعله.. الأر...
ذوت العينان الكامدتان، وهوى الرأس الهرم، والسبابة تنتصب متشنجة..
- أبي.. أبي..
السبابة مازالت منتصبة، والشفتان الغليظتان شاحبتان، والعينان مازالتا تحدقان وكأنهما تستشرفان آفاق المجهول..
أسبل كريم عيني أبيه، وقبّل رأسه، ورفع الغطاء إلى وجهه، ومدّ يده تحت الوسادة وعيناه تذرفان الدموع بسخاء..
كانت الوصية وريقة صفراء مشققة.. قرأها كريم بصوت مرتعش:
"أوصيكم يا أبنائي أن تدفنوني في مسقط رأسي.. أرجوكم"
***
البناء الذي ظلّ برغم الشيخوخة شامخاً ومتيناً كالقلاع القديمة قد تقوّض، وانطفأت تلك الجذوة التي كانت تشتعل في عينين تحيط بهما الظلال، وشحبت تلك التجاعيد التي تشبه الطلاسم السحرية، وهمدت الدماء التي كانت تجري في تلك العروق النافرة الزرقاء..
ملء جوارحي ظمأ إلى نار.. هو قتيل الهاجس وأنا إن توانيت عار..
أرى كلّ ما يرى سراباً.. موسومة بدمي المكابد صرختي.. يا شمس نهاري المغبون.. يا بدر سمائي المحزون.. يا أملاً برغم القهر أتوق إليه.. يا حلماً يئن من كوابيس الرهبة.. ها هو الصمت عباءة صفراء تثير في الجو زوابع وفي النفوس كآبة.. ها هو الذعر ينثر على الشفاه اليابسة ألف سؤال..
أيها المحمول على آلة حدباء.. يا سائراً مع سواقي الذهول إلى خليج الدهشة ستغرس هناك حيث رغبت وتداً مع الأوتاد.. هاهم مشيعوك يتهامسون خلسة والهلع يغمر وجوههم الصدئة.. أنهم يسيرون بحذر شديد.. يتوسلون:
- كريم يا ولدي.. وصية أبيك هلاك لنا..
- كريم يا أخي.. أدفنه في مقبرة المنطقة فالأرض كلها لله..
- كريم يا صديقي.. اتق الله في أولادنا ونسائنا..
تفتحت شهيتي للبكاء.. تفجرت في ذاكرتي طاقة هائلة من المواجع.. كان إحساس غامض يدفعني إلى مزيد من البكاء.. وبكيت طويلاً، وتحول البكاء إلى نواح، ونائحاً نادباً كنت أرتعش وأنتفض وأحني رأسي وقد بللت الدموع وجهي كلّه.. تنهمر العبرات مني بسخاء، وكأن نبعاً من الماء المالح مدفون خلف جبيني..
الأنظار ترنو إلى البعيد بقلق، والجنازة تسير بحذر.. هالة الصمت تكلل الوجوه وتستقرئ الهلع، والمشيعون يتسللون بخفة متناهية عند كل منعطف..
الجنازة توقفت ليصل إليها المرجفون.. غمغمة كريهة تحطم جدار الصمت بقوة وتدنس قدسية الموقف:
- إلى أين أنت سائر بنا يا كريم؟
- إلى حيث أوصى والدي.
- توقف قليلاً لنتشاور في الأمر.
- لا توقف ولانقاش.
- لكنك لن تستطيع أن تدخل تلك الأرض.
- سأدخلها مهما كلفني ذلك من ثمن.
- سيمنعونك بالقوة يا كريم.. لن يرحموك فأنا أدرى الناس بهم.. توقف أرجوك. صمت كريم وتوقف عندما برز فجأة رجل مسلح اعترض الجنازة وبقايا المشيعين.. البندقية لامعة تعكس أطياف الغضب بهمجية فتنثرها شتائم مقذعة..
قال الرجل المسلح بعصبية:
- كان بإمكاني اصطيادكم فرداً فرداً بكل سهولة ويسر لكن حرصي على أسركم أحياء يمنحني رتبة وميزات.. ماذا تظنون؟! هل الأمور سائبة إلى هذا الحد أيها الأوغاد؟ ثم ما هذا التابوت؟! أتعتقدون أنني غبي إلى هذه الدرجة؟
قال كريم متوسلاً:
- وصية والدي أن يدفن في مسقط رأسه.. إنه ابن تلك القرية، وأشار بسبابته المرتجفة نحو بيوت ترقد واجفة تحت أقدام جبل شامخ معمم بجهاز رادار كبير..
- ألا تعلم بأن الدخول ممنوع إلا بأمر.
- أرجوك قل لصاحب الأمر أن يسمح لنا بدفن هذا الرجل في مقبرة هذه القرية أرجوك وأتوسل إليك.
- كفى وارفعوا أيديكم عالياً.
رشق الرجل المسلح وجوه المشيعين بسهام عينيه، وهيأ بندقيته بحذر شديد.. الأيادي مرتفعة، والرؤوس منكسة تلوذ ببعضها تنظر خلسة كل هنيهة إلى الرجل المسلح الذي أخذ يدور في كلّ اتجاه يفتش الجيوب ويتلمس البطون والظهور وزوايا الأجساد، ولمّا لم يجد شيئاً بصق على الأرض بقوة وقال:
- انتظروني لحظة.. إياكم أن تتحركوا.
اختفى الرجل المسلح خلف رابية حيث خيمته المموهة بأغصان الأشجار والوحول اليابسة، ورجع بعد قليل وعيناه تقدحان بالشرر قائلاً:
- افتحوا التابوت.
- ماذا تقول أيها الرجل؟ اتق الله.. ألا تخاف الله؟.
وضع الرجل المسلح فوهة بندقيته على رأس كريم قائلاً:
- إذا لم تفتح التابوت فسأطلق النار عليك وعليهم جميعاً.
بهت الرجل المسلح، وتملكته الدهشة وهو ينظر بأسى إلى الرجل المسجى في التابوت، وقال:
- أليس هذا هو الشيخ الهرم صاحب العكازة الذي كان يتردد دائماً برفقتك؟
هل هو أبوك؟!
- أقسم لك بالله العظيم إنه أبي.
- رحمة الله عليه.. إنه مثل أبي.. يشبهه تماماً.. ولطالما كنت أراقبه بالمنظار فأرى دموعه وحزنه العميق الذي كان يرتسم على وجهه المخدد..
اسمع يا أخي.. لن يدعك صاحب الأمر تمر بسلام، وستعرضني وتعرض نفسك وكلّ المشيعين لمتاعب كبيرة لن تنتهي بسهولة إن دخلت تلك القرية..
هذه الأرض التي نقف عليها الآن هي جزء من أرض القرية التي ولد المرحوم فيها.. كلّ ما أستطيع مساعدتك رغم ألمي وحزني العميقين هو أن تدفنه هناك خلف هذه الأوتاد اللعينة، وسأغرس حول قبره أشجاراً ربما تقتلع مع مرور الزمن ذلك السياج الصدئ وتلك الأوتاد التي تراها..
ومسح الرجل المسلح بمنديله القطني دمعتين لم تستطع عيناه الواسعتان إخفاءهما.